هذا الشرح المبارَكُ على مختصر ابن الحاجب في الأصول المُسمَّى «رفع الحاجبِ».
قال الإمام التقي السبكي: (مَن جَدَّ وَجَد، ومَن ذاقَ اعتَقَد، ومَن لم يجعَلِ اللّهُ له نُورًا فما له مِن نورٍ).
وهو كتاب لم يَنسِجْ ناسجٌ على مِنوالِه، ولم يأتِ مؤلِّفٌ بمثالِه، كيف لا ومؤلِّفُه الإمامُ العَلَمُ الهُمامُ، الغنيُّ عن التعريفِ والكلامِ، الإمامُ تاجُ الدينِ السُّبكيُّ، قد بلغَ به الغايَةَ القُصوَى في البحثِ والتَّحقيقِ، والنِّهايَةَ العُظمَى في الجَمعِ والتَّدقيقِ، فكان عُمدةً لمن جاءَ بَعدَه، فاعتمدَ عليه واستفادَ منه ومن مُؤلَّفاتِه عمومًا جمعٌ كبيرٌ من المُحقِّقينَ من مختلِفِ المذاهبِ.
بتقديم شيخنا المبارك فخر الأصوليين العلامة: أ د/ محمود عبدالرحمن حفظه الله، ومما قاله في مقدمته: «أعدُّه أفضلَ شُروحِ الشَّافعيِّةِ على مُختَصرِ ابنِ الحاجب».
& جمعتُ لهذا الكتابِ عشرينَ نُسخةً خطيَّةً تقريبًا من فهارسِ المخطوطاتِ وسؤالِ المُختصِّين، منها ما هو غيرُ مُفهرَسٍ، على مدار عدة سنوات؛ وذلك لشدَّةِ اهتمامي به.
& صححت مئات الأخطاء الواردة في الطبعة السابقة من تحريف وتصحيف وسقط أحيانًا بالسطور، وقد عددت أكثر من ١٠٠ خطأ في المجلد الأول من المطبوعة ثم توقفت، ولذا فهو يطبع فعلًا لأول مرة بما يسر الناظرين من الأصوليين والمحبين.
& وقفتُ على المُجلَّدِ الأولِ من نسخةِ المؤلِّفِ في مكتبةٍ، ونسخة قابلها المصنف بنفسه وكتب إلحاقات عليها بخطه، ونسخة هي عن آخر ما ارتضاه المصنف وأقره في كتابه، ونسخٍ أخرى ينظر وصفها في مقدمة التحقيق.
وبعدَ دراستي لهذا النسخِ دراسةً وافيةً أقولُ:
كتبَ الإمامُ السبكيُّ رحمَه اللّه نسخةً من كتابِه، وظنِّي أنَّه نُسِخَ منه بعضُ النسَخِ، ثم أخذَ يزيدُ على نسختِه التي بخطِّهِ ويُعدِّلُ بالزيادةِ بالإلحاقاتِ، والنُّقصانِ بالضَّربِ، وكأنه يصنِّفُ كتابًا من جديدٍ، ونُسخَ منها نسخةٌ وقفتُ عليها، قابَلَها بنفسِه وعليها بلاغاتٌ بخَطِّه، ثم أضافَ لنُسختِه التي بخطِّهِ زياداتٍ أخرى، بَعضُها زاده أيضًا بخطِّه في هذه النسخةِ، وبَعضُها لم يَزِدْه، وغيَّر في نُسختِه بعضَ الألفاظِ ولم يغيِّرْ في هذه النُّسخةِ، وهذا يعني أنه كان يزيدُ في نسخَتِه على أوقاتٍ متفاوتةٍ، كعادةِ العلماءِ في تنقيحِ أعمالِهم، ولم أقِفْ في النُّسخِ الخطيَّةِ كُلِّها إلا على نسخةٍ وحيدةٍ هي عن آخرِ ما كتبَه المؤلِّفُ وعدَّلَه وزادَه، ساعدتني كثيرًا.
وكانت تعديلاتُ المُصنِّفِ رحمَه اللّهُ على نُسختِه إمَّا بالاختصارِ، أو بالتَّقديمِ والتأخيرِ بينَ عِباراتِه، أو بزيادةِ فائدةٍ ظهرَت له، أو بإعادةِ صياغةٍ، كإتيانِه بعبارةٍ أكثرَ وُضوحًا، أو بتغييرِ كلمةٍ بأفصحَ منها .. إلخ.
وهذا درسٌ عمليٌّ في تحقيقِ التُّراثِ يُفهَم منه:
(1) من أين يأتي بعضُ الاختلافِ بينَ النُّسخِ الخطيَّةِ الجيدةِ للكتابِ الواحدِ.
(2) ويوقفك على أهمية جمعِ النُّسخِ الخَطِّيةِ للكِتابِ وتتبُّعِها ودراستها، حتى مع وجودِ نُسخةِ المُؤلِّفِ، فقد تجد فائدة في إحداها.
* قد تَجدُ في نُسخَةٍ منها تاريخَ تأليفِ الكِتابِ، أو تقريظًا لأحدِ العُلماءِ كما في كتابنا هذا، فقد وقفتُ على تقريظٍ نفيسٍ لهذا الكتابِ للإمام ابنِ قاضي الجَبلِ الحَنبلِيِّ، وغير ذلك من الفوائد التي يعرفها من تعانى التحقيق.
وعلى قدرِ أهميَّةِ الكتابِ يكونُ أهميةُ جمعِ النُّسخِ الخطيةِ، فتحقيقُ الصَّحيحَينِ مثلًا يستلزِمُ جمعَ كلِّ ورقةٍ منه، بخلافِ تحقيقِ رسالةٍ في شرحِ حديثٍ مثلًا أو ما شابهَ.
ولا يُغني وجودُ نسخةِ المُؤلِّفِ عن جمعِ غَيرِها من النُّسخِ المتاحةِ والنَّظرِ فيها؛ ففي كِتابِنا هذا:
* نُسخةُ المؤلِّفِ ناقصةُ الثلُثِ تقريبًا.
* وبها بعضُ صعوبةٍ في الخطِّ.
* وكثيرٌ من ألفاظِها غيرُ منقوطٍ، حتى اختلفَتِ النُّسخُ المنقولةُ عنها في نَقطِ بَعضِها، بل وفي معرفةِ بَعضِ حروفِ كَلِماتهِ، والنُّسخةُ المقروءةُ على المُؤلِّفِ بها نَقطٌ وضبطٌ ساعدَني كثيرًا في حلِّ مرادِ المصنِّفِ.
* كما أنَّ بها إلحاقاتٍ غيرَ واضحةٍ، وإلحاقاتٍ قد يصعُبُ معرفةُ أماكِنِها
= كل هذا يَفُكُّهُ لك ويُقرِّبُه هذه النُّسخُ الأُخرى الجيدةُ، وقد وقف الإمام السبكيُّ على نسخة المختصر بخط ابن الحاجب، ومع هذا تجده يرجع لنسخٍ أخرى ويقارن ويعلق على بعض الاختلافات.
* وقد وقعَ للمُصنِّفِ رحمه اللّه بعضُ الهَناتِ في نُسخَتِه التي بخطِّه، منها ما هو سَبقُ قَلمٍ، ومنها ما هو عن سَهوٍ منه رحمه اللّه، وهذا لا يخلو منهُ بشرٌ، وهو يدلُّكَ على أنَّ بعضَ الأخطاءِ التي تقعُ في بعضِ النُّسخِ الخطِّيةِ تكونُ مِن أصلِ المُؤلِّفِ، ومع هذا ينبغي عدمُ المُسارَعةِ من المُحقِّقِ لنِسبةِ ذلك لمُؤلِّفه، فالأصلُ براءتُه مِن مثل ذلك، واللّه أعلم.
* وكذا وقعَ في نُسخَتِه التي قابلَها بنفسِه أكثرَ ممَّا وقعَ في نُسختِه السَّابقةِ، وهذا أيضًا يُوقِفكَ على أهمِّيةِ الاعتِمادِ على نُسخٍ أُخرَى غَيرِ مِثلِ هذه النُّسخَةِ في تَحقِيقكَ إنْ وُجِدَ.