لقد ظل الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، منذ عقود، يشتغل بالأخلاق، معتبرًا هوية الإنسان هوية أخلاقية؛ ولم يزل كذلك إلى أن توصل إلى إنشاء نظرية أخلاقية غير مسبوقة تُعرّف الإنسان بكونه كائنًا ائتمانيًا، جاعلةً «أخلاقية الإنسان» تتحدَّد بتحمُّله مسؤوليةً تتسع للكون كله؛ وقد بسط، في هذا الجزء الأول من الكتاب الذي بين يديك، صورة متكاملة ومتناسقة لهذه النظرية الائتمانية المتميزة؛ فعرَض مجموعة من مفاهيمها الأساسية وهي: «الميثاق» و«الفطرة» و«الأمانة» و«الرسالة» و«التربية»، مبينًا كيف أن هذه المفاهيم ذات أبعاد كونية؛ ثم ألّف بينها في جملة من المبادئ الكلية، فاستنتج منها حقائق أخلاقية تتعلق بـ «المجتمع العالمي»، كاشفًا المدى البعيد لمعضلاته الأخلاقية، حقائق توجب المبادرة إلى إحداث مُنعطف أخلاقي جديد في العالم يجعل الإنسان يرتقي بشعوره الأخلاقي إلى أوسع دائرة تعاملية ممكنة، فلا يستثنى أي شيء، مهما تدنّى مقامُه، ولا يفصِل شيئًا عن شيء، مهما بعد مكانه.
تدّعي النظريات الأخلاقية المعاصرة أنها نظريات علمانية خالصة، وأن بإمكانها أن تُحدّد مقتضيات «التحول الأخلاقي» الذي يستدعيه وضع «المجتمع العالمي»؛ غير أن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يعترض على هذا الادعاء المزدوج؛ إذ يرى أن هذه النظريات لا تنفك، عن وعي أو بغير وعي، تتوسل بالمعاني الإيمانية في بلورة مفاهيمها وصياغة مسائلها، كما أنها لا تملك القدرة على الارتقاء بتنظيرها إلى الأفق الأخلاقي الكوني الذي يوجبه التحول العالمي في الشعور الأخلاقي؛ فأخذ، في هذا الجزء الثاني، يحاور هذه النظريات، مناقشا المفاهيم الأخلاقية التي اعتمدتها من أجل هذه الغاية، وهي: "المعيارية" و"الأمرية" و"القيمة" و"الثقة" و"المسؤولية" و"العدالة"؛ فبيّن كيف أن هذه المفاهيم، في جوانب هامة منها، عبارة عن علمنة للمعاني الإيمانية، وأن النتائج المترتبة عليها لا ترقى إلى الأفق الأخلاقي الكوني المطلوب؛ كما وضَّح، في مقابل ذلك، كيف أن العودة الائتمانية إلى هذه المعاني، في أصولها وحقائقها، تُمكن من تدارك ما فات هذه النظريات المعاصرة، تحصيلًا للشعور العالمي، وتوسيعًا لأفق التعامل، وإدراكًا لأغوار المسؤولية وتوعيةً بالعدالة الكونية.