فإن مما لا يخفى أن أشرف العلوم علم التوحيد ؛ لأن التوحيد هو الغاية التي خُلق لأجلها الثقلان وأشرف علومه العلم بأسماء الله وصفاته؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والله تعالى أشرف المعلومات، وقد درج أهل السنة وسلف هذه الأمة على إثبات ما دلَّ عليه الكتاب والسنة من الأسماء والصفات الله تعالى على الوجه اللائق به، دون تمثيل أو تحريف.
لكن فئة من الناس - عُرفوا بأهل التعطيل - أقحموا عقولهم في هذا الباب، ولم يلتزموا ما صح في السنة أو دلّ عليه الكتاب، من إثبات الأسماء والصفات، فتوهموا أن التوحيد وتنزيه الله يكمن في نفي الصفات أو بعضها، ووسموا المثبتين لها بالمشبهة والممثلة والمجسمة، ظناً منهم أن إثباتها يستلزم التشبيه والتمثيل.
قال أبو حاتم: (علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الله: فالجهمية من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفي جميع الصفات، وبالتجسيم والتشبيه: إثبات شيء منها، حتى إن من قال: إن الله يُرى، أو إن له علما، فهو عندهم مشبه مجسم، وكثير من المتكلمة الصفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفي الصفات الخبرية أو بعضها، (وبالتجسيم والتشبيه : إثباتها أو بعضها).
والذي أريد الإشارة إليه هنا - في هذا البحث المتواضع - بيان زيف هذه الشبهة التي قام عليها مذهب التعطيل - على اختلاف طوائفه - وهي اعتقادهم أن ظواهر نصوص الصفات تقتضي التشبيه والتجسيم؛ فنفوا لأجل ذلك صفات الله تعالى أو بعضها، وَرَكِبُوا لتحقيق ذلك عدة شبه ، زعموا أنها أدلة عقلية، وقواطع يقينية، وهي في الحقيقة: ﴿كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَم يَجِدهُ شَيئًا﴾ [النور: 39]
ولم يقف أمرهم عند هذا الحد، بل تسلطوا على نصوص الصفات إما بالرد والتكذيب، وإما بالتحريف والتفويض، الذي يفضي إلى سلبها دلالاتها الصحيحة وتجريدها من معانيها المرادة منها، بحجة أن ظاهرها يستلزم التشبيه، فكان لا بد من بيان بطلان هذه الشبهة، وخطأ المتكلمين في اعتقادهم لها وجعلها أصلاً تُرَدُّ لأجله نصوص الكتاب والسنة.
ولا ريب أن بعضاً من هؤلاء المتكلمين كان قصدهم حسنا، فما لجؤوا إلى هذه التأويلات إلا انتصاراً للنصوص الشرعية من أن تدل على التشبيه والتمثيل، وتنزيها الله تعالى مما ظنوه تشبيها وتمثيلاً؛ لأنهم توهموا أن ظاهرها التشبيه والتمثيل، ولكن ليس كل من أراد الحق أصابه.
وما يريده أهل السنة من هؤلاء المتكلمين ألا يكونوا مشبهة ممثلة، ولا نفاةً معطلة لصفات الله تعالى، بل كما هو حال أهل السنة وسلف هذه الأمة: يثبتون الأسماء والصفات دون تمثيل، وينزهون الله تعالى دون تعطيل؛ إذ لا يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتمثيل.