فوكو في إيران الثورة الإسلامية وحركة التنوير - بهروز قمري تبريزي البحر الأحمر للنشر

٦٠

هل سرق الملالي الثورة؟ على مدى أكثر من ثلاثة عقود عملت أسطورة سرقة الثورة، عمل السرد الرئيس لأعمال أكاديمية لا تحصى وأطروحات سياسية كتبها من وجدوا أنفسهم وسط صفوف المهزومين في صراع ما بعد الثورة.

وكي نفهم أهمية قراءة فوكو للثورة الإيرانية، أعتقد أنه من الضروري تنحية هذه الأسطورة جانبا. خاصة أنها مدفوعة بالتزام حيال تاريخ عالمي تقدمي، وفهم ثنائي قوامه السياسات العلمانية مقابل الإسلامية. ويعد كتاب "فوكو والثورة الإيرانية" لمؤلفيه جانيت أفاري وكيفن أندرسون، رمزا لكيفية بناء هذه الأسطورة وعرضها ونشرها. إذ تثير أفاري وأندرسون في كتابهما هذه الأسطورة؛ لاتهام فوكو بفشله في التنبؤ بما كان لائحا من كارثة إسلامية ونعت للثورة بأنها تخل رجعي عن الحداثة.

تزعم أفاري مع أندرسون أن الأصل وراء إصدار كتابهما، يكمن فى حقيقة ما أظهراه من أن تأييد فوكو للإسلام السياسي وافتانه بـ الروحانية السياسية كان ببساطة امتدادًا لفلسفته المناهضة للحداثة». لكنهما في معرض عملهما هذا، ارتكبا أخطاء جسيمة؛ سواء في تفسيرهما لفوكو أو تصويرهما للإسلام السياسي. فمن وجهة نظرهما، كان انحياز فوكو ضد

الحداثة قد منعه من تقدير "الهواجس النسوية" والتحذيرات العلمانية حول طبيعة الإسلاميين الحقيقية بوصفهم عناصر معادية للديمقراطية وللمرأة داخل الحركة الثورية. وهو في ذلك، لم يكتف بتأييد تناسخ «الفاشية» في إيران، بل الأدهى من ذلك أنه أخفق في الاعتراف بأن الشعب الإيراني عانى تحت نظام سياسي؛ قدم له فوكو يد العون لجذب الدعم والتأييد. بهذا المعنى، لم يكن لديه وخز ضمير فيما يتعلق بالطريقة التي وصل بها الإسلاميون إلى الهيمنة على الحركة الثورية، مزيحين من طريقهم الماركسيين واليسار الوطني. وفيما يلي مقاطع تصور حجتهما الجوهرية ضد فوكو:

ترى لماذا قدم فوكو في كتاباته عن الثورة الإيرانية تأييده الشامل لجناحها الإسلامي؟ يبدو أن بعض نماذج أعمال

فوكو تجد صدى لها في الحركة الثورية التي تفتحت في إيران. كان هناك تقارب محير بين الفيلسوف ما بعد البنيوي؛ هذا الناقد الأوروبي للحداثة وبين تلك العناصر الراديكالية الإسلامية المناهضة للحداثة في شوارع إيران. كلا الطرفين كانا يبحثان عن شكل جديد من الروحانية السياسية بوصفها خطابًا مضادا لعالم ممعن في المادية. وكلاهما تشبثا بمفاهيم ذات طابع مثالي، عن نظم اجتماع ما قبل الحداثة. كما أظهرا ازدراء هما للنظم القضائية الليبرالية الحديثة. وأعجب الفريقان بمن خاطروا بحياتهم سعيًا للوصول إلى وجود أكثر أصالة. غالبًا ما فُسر تقارب فوكو مع الإسلاميين الإيرانيين على أنه الخطأ» الذي ارتكبه حيال إيران، وهو ما قد يميط اللثام أيضًا عن بعض التشعبات الأكبر لخطابه النيتشوي الهايدغري... الفارق بين السرد الفوكوي الكبير والسرديات الليبرالية أو الماركسية الكبرى هو أن سرد فوكو لا يمنح الامتياز للحداثة، بل للنظم الاجتماعية التقليدية.

لا شك أن عمل أفاري السابق عن الثورة الدستورية الإيرانية شكل إلى حد كبير فحوى سردها للحركة الثورية في عامي ۱۹۷۸ و ۱۹۷۹، وهو ما ينطبق كذلك على سرد أندرسون.

نجدهما يطرحان في حجتهما أنه بالإضافة إلى الإسلاميين، شمل الـ التحالف الذي حقق الثورة قوميين، وليبراليين علمانيين وأحزاب يسارية. ومن منظورهما في حين أن الفصائل العلمانية الديمقراطية التقدمية حاربت سلطوية الشاه؛ فإن ما حرك فصيل الإسلاميين والمعرقلين والرجعيين هو عداؤهم لتحولات المجتمع الإيراني الاجتماعية والثقافية التي افتتحها الشاه بخطة التحديث. وكتبت أفاري مع أندرسون أنه في أواخر عام ١٩٧٨ كان الفصيل الإسلامي المتشدد بقيادة آية الله روح الله خميني قد بلغ وضع الهيمنة على الانتفاضة التي اندلعت ضد النظام وشارك فيها الوطنيون العلمانيون والليبراليون واليساريون.

بقراءة سرد أفاري وأندرسون، يصل المرء إلى الاستنتاج الكاذب؛ بأن الحركة الثورية تفتحت في ظل صراع على القيادة ظل دائما محل نزاع مما يوحي بأن آية الله خميني أصبح رأس الحركة بنهاية الصراع عبر مناورة سياسية بونابارتية. وقد أوحيا خطاً أيضًا بأن مثقفي الثورة وفصائلها السياسية شاركوا في جدالات مكثفة حول المزايا الأيديولوجية والسياسية للعلمانية. كذلك طرحا أن الخميني وفصيله الإسلامي هيمنوا على الحركة الثورية وأزاحـوا اليسار الماركسي والقومي في ديسمبر/ كانون الأول عام ۱۹۷۸ أي قبل شهرين فقط من الانتصار النهائي للثورة.

وهذا التأريخ إنما يمهد لوضع فوكو موضع المسئولية عن الفشل في ملاحظة الفصائل المتنازعة وسط المتمردين حتى في الفصل المخصص عن كيفية تأكيد الإسلاميين قيادتهم وإدامتها عبر المواكب والمسرحيات التي تلعب على العاطفة وطقوس الكفّارة؛ لا يشير المؤلفان البتة إلى الأهمية السياسية لطقوس الحداد الشيعية في مناسبات الأربعين لإحياء ذكرى المتوفى التي كانت كفيلة باستمرار الحركة وتماسكها في أواخر عام ۱۹۷۷ وأوائل عام ۱۹۷۸. إنه إغفال خطير، إذ إنه يشوه حقيقة كون فوكو في واقع الأمر شهد على حركة جماهيرية موحدة غير منقسمة ومتنازعة فور وصوله إلى طهران في سبتمبر/ أيلول عام ١٩٧٨.

كما ناقشنا في الفصل الأول من هذا الكتاب فإن التعبير الديني في إيقاعه المتسع وروحه الثورية، سمح للحركة أن تنتشر بعمق واتساع شديدين وسط الطبقات المتنوعة في مناطق مختلفة من البلاد. فالتوقيت والتسلسل والتعبيرات الدينية الخاصة التي تميزت بها هذه المظاهرات لا تعني أن جميع من شاركوا طالبوا بثورة إسلامية صريحة. لكن من الضروري تقدير ما كان من حقيقة أن الخطاب الشيعي عن الاستشهاد والتضحية - والأهم، توفير شبكة مترامية الأطراف من المساجد وغيرها من المواقع الدينية - حولت الاحتجاجات إلى حركة ثورية قادرة على الاستمرار. كانت لغة الإسلام الشيعي هي التي أعطت صوتًا للثورة على الرغم من حقيقة أن جميع من تحدثوا بها لم يكونوا يقصدون المعنى نفسه الذي يمكن إسناده لمصطلحاتها ومفاهيمها. لقد تكفلت الطقوس الشيعية باستمرارية الحركة عبر توليد ذخيرة من المعارضة؛ شعرت أغلبية واسعة من الشعب شعورًا عميقا بالارتباط بها والألفة معها.


تفاصيل المنتج
  • الوزن
    ٠٫٥ كجم
  • ٦٠
إضافة للسلة

منتجات قد تعجبك