يخرج إلى النور هذا الأسبوع كتاب جديد بالتعاون مع المعهد الألماني للأبحاث الشرقيةفي بيروت بعنوان "نقاشات ترابطية" مع عنوان فرعي: "لاهوت التعايش".
يحوي الكتاب مجموعة من المقالات العلمية الرصينة لمجموعة متميزة من كبار الأكاديميين من دول عربية متعددة مثل أديب صعب، محمد حبش، حيدر ديوان الأسدي، عبد الباسط هيكل، سعاد التميمي، سوسن الشريف، صبحي نايل، كريمة نور العيساوي، أبو الوفا محمد، حسام الدين درويش وأحمد عبد السلام مع حفظ الألقاب العلمية والأكاديمية للجميع.
الكتاب هو نتاج أعمال المؤتمر الذي عقد بالقاهرة في صيف 2022 تحت نفس العنوان بتنظيم من المعهد الألماني.
موضوع الكتاب:
كانت حياة العالم الإسلامي إبان قوته وسيطرته على العالم نموذجًا للإسلام القوي الواثق الذي يؤمن بالتعايش وترك مساحة للآخرين يبنون ويؤمنون ويبدعون ويعيشون، وهو ما أطلق عليه الباحث الأمريكي "مارشال هدجسون" حضارة العالم الإسلامي Islamicate Culture وتمثل بلاد القلب من العالم الإسلامي المعاصر الأنموذج الحي لهذا الأمر، حيث عاشت واستمرت أديان أخرى غير الإسلام في مصر والشمال الأفريقي إضافة إلى العراق والشام واليمن، وعلى العكس من هذا، نجد الإسلام منتشرًا في مناطق كثيرة من العالم لم تذهب لها جيوش الفاتحين. وعند مقارنة قدرة الإسلام والمسلمين في ظل تفوقهم على التعايش مع الجميع مقارنة بسلوك الغربيين في حروبهم الاستعمارية في الأميريكتين وأفريقيا وآسيا وغيرها، يجد الباحث البون شاسعًا بينهما مما يؤدي إلى بروز سؤال نتناص فيه مع المفكر المصري الراحل جلال أمين ونسأل: “ماذا حدث للمسلمين؟"
لماذا فقد المسلمون هذه الروح وهل ساهم التأخر الحضاري في بروز التعصب وهل أدى الخوف من فقدان الهوية أو الدين – في إطار الفزع – إلى التخلي عن السمت المميز لتدين المسلمين من مودة وتراحم ونظرة ودود لأهل الكتاب ولبني الإنسان بصفة عامة؟ وكيف وعلى أية أسس يمكن للمجتمعات المسلمة اليوم أن تنهض واثقة من نفسها ومن مخزونها الحضاري وفي قدرتها على الاضطلاع بدورها المنوط بها في أن تقدم نموذجًا ليس فقط للتعايش، بل أيضًا للاحتواء.
لا يعزف الكتاب الألحان القديمة من تصالح مُسًيس ساذج، كما لا يذهب حتى لفكرة التفتيش عن المشترك بين الأديان وشرح كيف أنها تصل وتحاول أن تصل إلى هدف واحد وأنها في النهاية واحد! لا، بل يؤكد الكتاب من مقالته الأولى على تفرد واختلاف كل دين ويعي تمامًا أن " دعوتنا إلى إقامة لاهوت وحدة ليست سعيًا إلى تأسيس دين مصطنع أو إقامة وحدة تعسفية عبر فرض أحد الاديان على الناس. وإن أمكن هذا الفرض، فهو لن يتحقق إلا بالعنف ولن يدوم طويلًا إذ سرعان ما سينقسم الدين المفروض عنوة إلى مذاهب، ثم أن المؤمنين توزًعوا على الأديان والمذاهب المختلفة، وليس من الإنسانية سلب الناس خصوصيتهم الدينية المتمثلة في التراث الديني الخاص بكل جماعة. وما دعونا إليه من لاهوت وحدة ليس محاولة لإبطال لاهوت التنوع، لكنه بالأحرى محاولة لتعزيز هذا اللاهوت وإقامته على أساس راسخ"
يذهب الكتاب بعيدًا إلى أنه: " في غياب لاهوت الوحدة، من السهل جدًا أن ينحدر لاهوت التنوع إلى لاهوت خلاف بدلًا من أن يكون لاهوت اختلاف فحسب. وطالما حصل هذا الأمر مع ما يستتبعه من تنابذ على الصعيدَين النفسي والاجتماعي، يخون قضية الدين، مع ما يستتبعه من تنابذ الدين التي هي قضية محبة وعدل وسلام"
إذن ومن البداية يبتعد الكتاب عما يمكن تسميته بالدين الإبراهيمي، بل يؤكد في ثقة وعلم على التمايز ولكن هذا التمايز لا يعني أبدًا الصراع وانما يؤدي إلى الوحدة، لأن الدين في ذاته هو أحد مكونات ذلك الكيان المتشابك المعقد الجميل المسمى بالإنسان ولا يهدف هذا المكون "الدين" أبدًا إلى القضاء على باقي المكونات التي تشكل هذا "الإنسان" وأنه لا مانع أبدًا من أن نبقى مختلفين وأن نكون في الوقت ذاته متحابين وشغوفين في أن نتعلم من بعضنا البعض لأن هناك الكثير الذي نستطيع أن نتعلمه من بعضنا دون أن نفقد خصوصيتنا.
كيف هذا وماهي الروشتة التي تهيئ لنا هذا المزج الفريد بين حب الأخر وليس فقط احترامه مع التعلم مما لديه وعدم التماهي فيه؟
كيف يمكن الفخر بالمكون الذاتي مع تقدير ما لدى الآخرين دون الحط منه؟
كيف يمكن النظر للآخر في حب وشغف مقرونين برغبة في الأخذ منه دون الخوف وافتراض سوء نية مضمرة فيه؟
كيف يمكن الإيمان بأن استجلاب العالم بأكمله إلى دين من الأديان، لن يغني رب هذا الدين شيئًا وأن هجر الناس كلهم لدين من الأديان لن ينقص "الغني" شيئًا وأن الدين كله لله؟
كيف يمكن هذا كله؟
تنوعت الإجابات الذكية على هذه الأسئلة في مباراة عقلية رائعة بين باحثين عن حكمة الدين والحكمة من التدين وليس عن مظهره ولا رسمه.
كتاب جدير بالقراءة.