فَعِنْدَمُا كُنْتُ أَعْمَلُ فِي كِتَابِي المُنْتَخَبُ المُهَذَّبُ مِنْ عُلَمَاءِ عَدَنَ وَالْوَارِدِينَ إِلَيْهَا مِنْ كِتَابِ تَارِيخُ ثَغْرِ عَدَنَ ، وَفِي الحَقِيقَةِ فَإِنَّ مَا انْتَخَبْتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الانْتِخَابِ إِلَى شَيْءٍ كَانَ فِي نَفْسِي مِنْ قَدِيمٍ، أَلَا وَهُوَ الكِتَابَةُ عَنِ الحَيَاةِ العِلْمِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَعِيشُهَا عُلَمَاءُ عَدَنَ وَمَنْ يَرِدُ إِلَيْهَا مَعَ ذِكْرِ بَعْضٍ مَعَالِمِ عَدَنَ الدِّينِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ - كَانَ مِنْ بَيْنِ المَرَاجِعِ الَّتِي كُنْتُ أَرْجِعُ إِلَيْهَا كِتَابُ تَارِيخُ المُسْتَبْصِرِ لِابْنِ المُجَاوِرِ، فَرَأَيْتُهُ كِتَابًا مَاتِعًا، وَقَدِ اعْتَنَى مُؤَلِّفُهُ بِالكَلَامِ عَنْ مَدِينَةِ عَدَنَ» اهْتِمَامًا خَاصًا وَمُتَمَيِّزًا، فَقَدْ خَصَّصَ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ خُمُسِ كِتَابِهِ، وَأَفْرَدَ لَهَا خَارِطَةٌ خَاصَّةٌ عَنْ طوبوغرافيتها وَأَبْرَزِ مَعَالِمِهَا، وَتَحَدَّثَ بِتَفَاصِيلَ نَادِرَةٍ وَبِوُضُوحٍ عَنْ نَشَاطِهَا التَّجَارِيِّ وَمُعَامَلَاتِهَا الاِقْتِصَادِيَّةِ، وَتَكَلَّمَ عَنِ اليَمَنِ عُمُومًا وَمَكَّةَ وَالحِجَازِ وعُمَان وَغَيْرِهَا مِنَ البِقَاعِ، بَيْدَ أَنَّهُ أَعْطَى اليَمَنَ وَخَاصَّةٌ «عَدَنَ» «وَزَبِيدًا» النَّصِيبَ الأَكْبَرَ، وَلَوْ أَنَّ دَوْلَةٌ مِنَ الدُّوَلِ كُتِبَ عَنْهَا وَعَنْ جُغْرَافِيَّتِهَا وَمَعَالِمِهَا مِثْلَ مَا كَتَبَهُ ابْنُ المُجَاوِرِ عَنِ اليَمَنِ فِي كِتَابِهِ هَذَا لَاهْتَمَّتْ بِهِ اهْتِمَامًا كَبِيرًا، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَوْطَانَ قَدْ جُبِلَتِ الْأَنْفُسُ عَلَى مَحَبَّتِهَا، وَلِهَذَا يَقُولُ الجَاحِظُ : «وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَا مِنْ حُبِّ الْأَوْطَانِ قَوْلُ اللَّهِ ﷺ حِينَ ذَكَرَ الدِّيَارَ يُخْبِرُ عَنْ مَوَاقِعِهَا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَقَالَ:
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾، فَسَوَّى بَيْنَ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَبَيْنَ الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ» فَالكِتَابُ جَدِيرٌ بِالعِنَايَةِ، فَهُوَ كِتَابٌ كَمَا قِيلَ عَنْهُ: يَزْخَرُ بِثَرْوَةٍ عِلْمِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَأَدَبِيَّةٍ وَاقْتِصَادِيَّةِ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، تَدُلُّ عَلَى ثَقَافَةِ مُؤَلِّفِهِ الوَاسِعَةِ وَبُعْدِ نَظَرِهِ وَطُولِ بَاعِهِ، مِنْ خِلَالِ تَنَوُّع مَعْلُومَاتِهِ وَغَزَارَتِهَا وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَعْلُومَاتٍ تَارِيخِيَّةٍ وَجُغْرَافِيَّةٍ وَإِثْنُوغْرَافِيَّةٍ وَاقْتِصَادِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ رَصْدِهِ كَثِيرًا مِنْ ظَوَاهِرِ الحَيَاةِ المُتَنَوِّعَةِ فِي بِلَادِ اليَمَنِ خُصُوصًا، وَبِلَادِ الحِجَازِ وَالهِنْدِ وَالدُّيْبُولِ وَجَاوَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ البُلْدَانِ الَّتِي زَارَهَا وَسَجَّلَ لَنَا مُلَاحَظَاتِهِ عَنْهَا، فَكَانَ شَاهِدَ عِيَانٍ مُعَاصِرًا مُدَقِّقًا لِكَثِيرٍ مِنْ شُتُونِ الحَيَاةِ... يُعَدُّ هذا الكِتَابُ مَصْدَرًا مُهِمَّا عَنْ تَارِيخ اليَمَنِ وَالحِجَازِ ، فِيهِ مَعْلُومَاتٌ تَارِيخِيَّةٌ مُتَنَاثِرَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ كَبِيرَةٍ عَنْ تَارِيخ تِلْكَ البِلَادِ وَمُلُوكِهَا وَأَمَرَائِهَا وَقَادَتِهَا، خُصُوصًا الأَيُّوبِيِّينَ المُتَأَخْرِينَ فِي اليَمَنِ، وَأَوَائِلِ حُكْمِ الرَّسُولِيِّينَ وَشُرَفَاءِ مَكَّةَ مِنْ بَنِي قَتَادَةَ، وَتَعُودُ أَهَمِّيَّتُهُ إِلَى مُلَاحَظَاتِهِ المُبَاشِرَةِ عَنِ الحَيَاةِ العَامَّةِ، فَقَدْ تَنَاوَلَ بِغَزَارَةِ التَّفَاصِيلَ المُتَعَلِّقَةَ بِالحَيَاةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَالاقْتِصَادِيَّةِ، مِنْ عَادَاتِ الزَّوَاجِ وَالمَقَايِيسِ وَالنُّقُودِ وَالمَلَابِسِ وَالضَّرَائِبِ الجُمْرُكِيَّةِ، وَلَمَّا كَثُرَ رُجُوعِي إِلَى هَذَا الكِتَابِ رَأَيْتُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى عَمَلٍ كَبِيرٍ مِنْ ضَبْطِ لِلنَّصّ وَالتَّعْلِيقِ عَلَيْهِ وَالتَّعْرِيفِ بِالأَمَاكِنِ وَالبِقَاعِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهِ، فَكَثِيرٌ مِنَ القُرَّاءِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا، وَهِيَ أَمَاكِنُ عَرِيقَةٌ قَدِيمَةٌ وَأَثَرِيَّةٌ، لَا بُدَّ مِنَ التَّعْرِيفِ بِهَا وَبِمَكَانَتِهَا وَمَكَانِهَا تَعْرِيفًا مُخْتَصَرًا، فَتَوَجَّهَتِ الهِمَّةُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَوْفِيقِ اللَّهِ، وَقُمْتُ بِذَلِكَ، فَكَانَ العَمَلُ كَالتَّالِي:
هَذَا هُوَ خُلاصَةُ مَا قُمْتُ بِهِ، وَمَعَ هَذَا الَّذِي قُمْتُ بِهِ فَإِنِّي لَا أَدَّعِي لِعَمَلِي لكَمَالَ ، فَطَبِيعَةُ أَعْمَالِ البَشَرِ النَّقْصُ وَارِدٌ عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ حَسْبِي أَنِّي قَدْ أَفْرَغْتُ مَا فِي وُسْعِي لِخِدْمَتِهِ الخِدْمَةَ الَّتِي أَحْسَبُهَا تَلِيقُ بِهِ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.