فإنَّ الله خلق الإنسان، علمه البيان، وأنزل على نبيه القرآن، وأيده بالآيات والحجج والمعجزات والبراهين، وجَعَلَ القرآن معجزته الخالدة، تحدى بها الإنس والجن متظافرين، فلم يأتوا ولن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وقد نزل القرآن في زمن سما فيه شأن البيان، وبلغ فيه اللسان العربي شأواً سامقاً في الفصاحة والبلاغة، فكانت تُضرب القباب في الأسواق لكبار الشعراء، يتحاكم إليهم فرسان البيان في نقد قصائدهم قوَّةً وضعفاً، فمَن أَقَرُّوا له بالفحولة في الشعر طارت بقصائده الركبان، وصار مشهوراً معروفاً، يجري شعره على ألسنة النَّاسِ في أنديتهم ومجالسهم.
فلما نزل القرآن شغل قريشاً وغيرها بنظمه وإعجازه، فلم يجدوا لمجاراته سبيلاً، واستعصى عليهم أن يأتوا بسورة من مثله، حتى قال قائلهم - *وهو الوليد بن المغيرة - : وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةٌ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرُ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ).*
ومما تتجلى فيه هذه الحلاوة والطلاوة والعُلُو بلاغته ونظمه وسبكه، ولا سبيل في زمننا هذا إلى تذوق ذلك في القرآن الكريم خاصة، وتذوق كلام العرب عامة إلا بإتقان علوم اللغة العربية، ومن تلك العلوم علم البلاغة بأصنافه الثلاثة *(المعاني، والبيان، والبديع)*.
ويُعَدُّ هذا العلم من أعظم علوم اللغة جلالة وقدراً؛ لذلك استفرغ العلماء جهودهم في التأليف فيه نظماً ونثراً، وشرحاً وتذييلاً.
وممن أسهم في خدمة هذا العلم الإمام الجليل أبو الوليد محب الدين الشهير بابن الشحنة الحلبي الله (ت٨١٥هـ)، فألف فيه منظومة مختصرة في نظمها، جزلة في ألفاظها وأسلوبها، حَوَتْ أصول علم البلاغة وأهم مباحثه، فمن عُنِيَ بها حفظاً وفهماً حَرِيٌّ به أن يُلم بمهمات هذا العلم.
وقد جعلتها ضمن المتون الإضافية من سلسلة: «متون طالب العلم» التي حققتها على ألف وخمس مئة (١٥٠٠) مخطوطة.
وأثبت في هذه النسخة حواشيَ التَّحقيق المتضمنة لبيان الفروق بين النسخ الخطّيَّةِ والتَّعليق عليها، وعزو المسائل، وشرح الغريب، وغير ذلك، وجعلتُ نسخةً أخرى مجرَّدةً من جميع ذلك؛ ليسهل على الطالب حفظها وجعلتُ بين يدي الكتاب: نشأة علم البلاغة، ومنهجي في التحقيق، وترجمة الناظم، وتحقيق اسم الكتاب، ووصف النسخ المعتمدة في التحقيق، ونماذج من المخطوطات.