إن العلم الشرعي من أفضل ما شُغلت به الأوقات، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن حفظ هذا الدين برجاله المخلصين، وهم العلماء العاملون، الذين كانوا أعلاماً يهتدي بهم، وأئمة يُقتدَي بهم، ومن هؤلاء الأئمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فإنه ملأ الأرض علماً وحديثاً، وانتفعت به الأمة، وصار إماماً وقدوة لأهل السنة.
ثم جاء من بعده أتباعه، فجمعوا مسائلة ورواياته، وقعّدوا لها القواعد، وفَرّعوا عليها المسائل، وأكثروا من التصنيف والتأليف، ولاسيما المتأخرون منهم، فإنهم سلكوا مسلك التصحيح والترجيح بين الروايات والأقوال، فحرروا المذهب ونقّحوه وبينوا ما أًجمل ووضحوه.
ومن هؤلاء علاء الدين علي بن سليمان المرداوي في كتابه "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، فهو تصحيح لما نقل عن الإمام أحمد في المسألة من روايات، وما نقل عن الأصحاب فيها من أقوال، ثم اختصره في كتابه "التنقيح المشبع" حيث صححّ فيه ما أطلقه الموفق في"المقنع" من الروايات والأوجه، وقيّد ما أخَلّ فيه من الشروط، أو ما فيه إطلاق، واستثنى من عمومه ما هو مستثنى على المذهب حتى خصائص النبي(صلى الله عليه وسلم، فصار تصحيحاً لغالب كتب المذهب، فبين في "إنصافه" و"تنقيحه" رحمة الله الصحيح من الضعيف.
ثم نحا نحو مقلداً له: موسي بن أحمد بن موسى الحجاوي في كتابه:"الإقناع لطالب الانتفاع"، فقد جرد فيه الصحيح من مذهب الإمام أحمد، ونحا نحوه أيضاً: العلامة محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الشهير بابن النجار في كتابه "منتهي الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح، وزيادات"، ويعتبر هذان الكتابان( الإقناع والمنتهي) العمدة عند المتأخرين، ومدار الفتوى عليهما، إذ فيهما البغية المنشودة والضالة المفقودة، فإن اختلفا فالمرجع والمعتمد على ما في:"المنتهي"، لأنه أكثر تحريراً وتصحيحاً من "الإقناع" وإن كان الإقناع أكثر وضوحاً ومسائل، ولما كان لكتاب:"المنتهي" هذه المنزلة عند المتأخرين من الأصحاب أَوْلوه عناية فائقة من جميع جوانبه، فتارة: بالحفظ والتدريس واعتماده في القضاء والفتينا، وتارة: بالشرح والاستدلال، وتارة: بالتحشية والتحرير والتدقيق، وتارة: بالاختصار، وتارة: بالجمع بينه وبين "الإقناع".
وممن خدم هذا الكتاب واهتم به، بالتحشية والتحرير، الشيخ محمد الخَلوتي-رحمة الله- في:"حاشيته على المنتهي"، فحَللّ وحرر كثيراً من ألفاظ "المنتهى" ومسائله، واعتنى بالفروق الفقهية، وتصوير المسائل، وتلخيص الشروط.
أسباب أهمية حاشية الخلوتي
شهرة المنتهى ومنزلته الرفيعة بين أهل المذهب، وتقديمه على غيره عند المتأخرين في الفتوى والقضاء، ولاشك أن هذه الحاشية ستستمد هذه القوة من ذلك إضافة إلى ما أطبق عليه الحنابلة من مكانتها المميزة بين شروح المنتهى وحواشيه.
مكانة مصنف الحاشية بين علماء المذهب وشهرته وتميزه بالتحرير والتحقيق والتدقيق.
ما لهذه الحاشية من ميزات كالعناية بنقل الأقوال ونسبتها، وكثرة مصادرها، واشتمالها على فوائد وزيادات كثيرة في فنون متنوعة، وظهور شخصية مؤلفها، ووضوح رأيه.
توفر النسخ الخطية الكافية لهذه الحاشية، مما يعني خروجها نصا على أحسن صورة.
استشهاد المصنف في الحاشية بأحاديث وآثار كثيرة مما يقوي الكتاب ويثري مادته.
التعريف بحاشية منتهى الإرادات اسم "الحاشية": لم يرد ما يدل على أن الخلوتي-رحمة الله- ذكر ل "حاشيته" اسماً معيناّ، إذ إن هذه " الحاشية" عبارة عن تحريرات وتقريرات، كتبها على نسخته على " المنتهى"، وبأوراق بداخل هذه النسخة، ولم يؤلفها ككتاب مستقل، وإنما جردها بعض تلاميذه بعد وفاته-رحمة الله، وقد جاء كلام مجَرّدها في أولها نصا حيث قال:"أما بعد: فهذه حواش لشيخنا، الشيخ الإمام، العالم العلاّمةً، والحبر الفهامة، ذي الدين المتين، والورع واليقين، محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي الشهير بالخلوتي-أسكنه الله بحبوحة جنته، وتغمده برضوانه ورحمته-على كتاب " منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح، وزيادات"، للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد تقي الدين، ابن قاضي القضاة أحمد شهاب الدين ابن النجار المصري الفتوحي الحنبلي- تغمدهما الله تعالى برحمته، وأدام النفع بعلومهما-، أحببت تجريدها عنه في كتاب مستقل ليكثر النفع بها، والله سبحانه المسؤول أن يوفقنا لكل فعل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل".
وقد اتفقت عبارات من ترجم للخلواتي- رحمة الله- على ذكر اسم لهذه "الحاشية" سوى كونها "حاشية على المنتهى".
القيمة العلمية لحاشية الخلوتي تعتبر " حاشية الخلوتي على المنتهى" مكملة لما سبقها من الشروح، فإن الشرح، وإن فاق" الحاشية" بتناوله جميع ألفاظ الممتن بالشرح والتحليل، لكن" الحاشية" تفوق الشرح بأن المحشي يتناول من ألفاظ المتن ما يرى أن بحثه مهم، ولهذا تجد في "حاشية الخلوتي علي المنتهى" من العمق، والتحرير، والتدقيق، ما لا يكاد يوجد في الشروح.
وتظهر قيمة "حاشية الخلوتي على المنتهى" بنقله كثيراً من عبارات شروح (المنتهي) والاستدراك عليها، أو تقييد وتبين ما أُطلق وأُجمل من تلك العبارات، وتحريرها، وتصويرها بأسهل عبارة، وأيضاً فإن في هذه "الحاشية" من النقولات ما لا يوجد في الشروح، ولا سيما ما ينقله عن الشيخ منصور البهوتي أثناء قراءته عليه في الدرس.
وقد أثنى علماء الحنابلة على هذه الحاشية، واعتمدوها مرجعاً في المذهب لما لها من قيمة علمية.