ليس دفاعًا عن علوم الحديث وعن منهجها النقدي ، بل هو بيانٌ للمنطلقات الحقيقية التي أنشأتها ، والتي جعلتها محلَّ اعتمادٍ عند كل من عرفها من علماء المسلمين ومن غيرهم في جميع التخصصات العلمية .
إنها منطلقاتٌ لا يختلف عاقلان في كونها الطريقة الوحيدة لنقد الأخبار وتمييز ما يصح منها وما لا يصحّ ، وقد انتهجها المحدّثون بكل تفاصيلها العقلية ، من أول قواعد علمهم الكبرى ، إلى دقائقه وقرائنه ، فأثبتوا للعالم أنهم أبدعوا علما يوجب العقلُ السليمُ قبولَ نتائجه والخضوعَ لأحكام علمائه ؛ لأنها نتجت من موجبات العقول.
وهذه الأُسُس العقلية هي فقهُ علوم الحديث وفقهُ منهجه النقدي ، وبغير تعلّمها سيكون دارسُ علم الحديث كثيرَ التناقض شديدَ الاضطراب ، يحفظ ولا يفهم ، وأعلى ما يبلغه من علوم الحديث أن يكون وعاءً بلا وَعْي : ناقلًا بلا فقه ، يروي بلا رَواء ، ويحكي بلا شعور . فلن يفقه الدراسُ علمَ الحديث بغير معرفة الأسس العقلية التي انطلقت منها وتأسّست عليها ، كما لن يكون الفقيه فقيهًا بغير معرفة أصول الفقه ومآخذ الفقهاء التي انطلق منها فقههم وتأسَّسَ عليها استدلالُهم.